[ هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين تقوم "جدلية" بنشره.]
لم أستطع حتى هذه اللحظه أن أكتب شيئاً عن نكبتنا، أشعر بالخجل من نفسي لمجرد التفكير في ذلك فجبروت هذا الحدث المأساوي يشلني ويشتت أفكاري. لا أستطيع نسيان أول لقاءٍ لي بالنكبة وجهاً لوجه وما تركه هذا اللقاء من ندوب على روحي، لقد كان ذلك نهاية الثمانينيات عندما وقع اختيار الغربة علي بمحض الصدفه لضمي إلى عائلتها الكبيرة، وكالأم الحنون التي تحرص دائماً على جمع شمل العائلة، تقوم بتنظيم لقاءات تجمع فيها بين أبنائها كلما سنحت لها ظروفها بذلك. وفي أحد هذه اللقاءات تعرفت على زياد بلهجته السورية، وقبل أن ألاحقه بأسئلتي قال لي بفخرٍ بأنه قادم من حيفا لكنه لا يعرفها إلا من قصص والده وجده، لقد ورث عن جده حلمه بأن يرى بلدته ولو لمرة واحده قبل أن يرحل عن هذا العالم، لقائي به غير نظرتي إلى نفسي كفلسطينية عاشت عقدين من حياتها تحت وطأة الاحتلال وإذلالاته اليوميه، الحزن الذي غطى ملامحه وهو يحدثني عن قصص هروب جده من المذابح الرهيبة التي ارتكبها الصهاينة في الثمانية والأربعين وتحول العائلة التي كانت تمتلك بيتا جميلاً وبيارة للحمضيات إلى عائله مشردة تبحث عن خيمة تلعق فيها جراحها، كان حزناً عميقاً وأشبه بوشمٍ تصعب إزالته. وعن طريق زياد تعرفت على مجموعة كبيره من المنكوبين، وكنا نلتقي بين الحين والآخر لنحتفي بقصص فلسطين، كنت دائماً أنتحل دور الراوي الذي يحق له أن يحكي عن هذا الوطن الضائع فيجلسون كلهم حولي كالأطفال في ليالي الشتاء الحزينة وقد لمعتْ أعينهم من نار الموقد وحكايات الجدة قبل النوم.
أما أكثر اجتماعاتنا تأثيراً على نفسي فكان لقاؤنا لإحياء ذكرى نكبتنا التي كانت تنظمها الجالية الفلسطينية في ألمانيا. ونجتمع فيها مرتدين أثوابنا المطرزة بألوان ترابنا وأشجار زيتوننا، وكلٌّ منا يحمل سحابة قاتمة على وجهه تنتظر الرياح لتبوح بأسرارها لورود الجبال الوحيدة. كنا نرقص الدبكة بقوة تضاهي اشتياقنا لفلسطين فتتشابكُ أيادينا وتتعالى أصواتنا لتطغى على أنغام العود الحزين التي كانت تعدنا دائماً بالعودة وإكمال دبكتنا تحت أشجار البيارة، فيزداد بذلك حماسنا ومعه وقع أقدامنا على أرض المسرح الخشبية.
أما أكثر اجتماعاتنا حزناً فهي تلك التي ألتقي بها معهم قبل رحلتي القصيرة إلى الأراضي المحتلة لزيارة أهلي، فيقومون بتوديعي وكأنهم لن يروني ثانيةً، ينظرون إلي بعيون من يودع بطلاً ذاهباً إلى أسطورة ليحضر لهم معه صوراً من بيوت أجدادهم المسلوبة وغصناً من شجرة الزيتون المعمرة التي صممتْ على انتظار عودتهم، وبعضاً من أعواد الميرمية وأوراق الزعتر البري الذي لا زال صامداً على هضابنا الشامخة.
أغادرُ حاملة أحزانهم معي في حقائب سفري وعندما أعود، لا أخبرهم عن طوابير الانتظار والإذلال أمام نقاط التفتيش ولا أحكي لهم عن الرجل المُسن الذي لا يزال ينتظر إذن الدخول إلى مدينته المقدسة ويخاف أن يسبقه إذنُ دخوله إلى السماء قبل أن يرى القدس. وبالتأكيد لن أخبرهم عن الجدران الإسمنتية التي حجبت عنا وجه السماء، سوف أحضرُ لزياد صور لبيت جده في حيفا ولشجرة الليمون التي زرعها والده بيده ولن أقول له بأن السيدة الغريبة القادمة أصلاً من أوروبا الشرقية والتي تسكن في بيتهم الآن قد قامت بطردي ولم تسمح لي بالدخول لأخذ بعض الصور لأحقق له الحلم الذي ورثه عن جده، سأخبرهُ بأن البيت لا زال مُقفلاً وبانتظاره، ومن أوراق الزعتر البري سوف نخبز الفطائر ومعها نشرب الشاي بالميرمية وسوف أسمح لهم بضمي واحتضاني لأن رائحة البلاد لا زالت عالقة بي كما يظنون، وسأعطيهم حق الاحتفاء بي كالأبطال العائدين بانتصاراتهم إلى ديارهم، ولن أخبرهم بانكساراتي المُخزيه أمام حواجز التفتيش. لا أريد لنا بأن نصبح في سباقٍ نتنافس فيه على التعاسة. لا أريد أن ندخل هذه المسابقه لأنها ستذكرني بحال المرضى الذين يظنون بأن عدم ظهور أعراض الوباء القاتل عليهم في غرف الحجر الصحي دلالة على نجاتهم، بعد أن فتك المرض بمعظم أصدقائهم.
وأما بالنسبة لي فسأحضرُ معي ثوباً جديداً طرزته لي جدتي قبل أن ترحلَ بقليل، وقد كانت تحلم أن تسلمه لي بيديها، ولكنها انتظرتني طويلاً وأنا كعادتي لم أحضرْ، فخبؤوه لي، وهذا هو الثوب الذي سأرتديه عندما أرقص معهم الدبكة الفلسطينيه في الذكرى القادمة لإحياء نكبتنا جميعاً.